فصل: سئل: عمن قال إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وقال الشيخ ـ رحمه الله‏:‏

 فصــل

وأما قوله‏:‏ ‏(‏من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي‏)‏ وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منها شىء صحيح، ولم يرو أحد من أهل الكتب المعتمدة منها شيئا‏:‏ لا أصحاب الصحيح‏:‏ كالبخاري، ومسلم‏.‏ ولا أصحاب السنن‏:‏ كأبي داود، والنسائي‏.‏ ولا الأئمة من أهل المسانيد؛ كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه، كمالك والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأمثالهم، بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله‏:‏ ‏(‏من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏من حج ولم يزرني فقد جفاني‏)‏، فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب‏.‏

والحديث الأول رواه الدارقطني والبزار في مسنده، ومداره على / عبد الله بن عبد الله ابن عمر العمري، وهو ضعيف، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديث ثابت أصلا، بل إنما اعتمد العلماء على أحاديث السلام والصلاة عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغير‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام‏)‏‏.‏ رواه النسائي‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي‏)‏، قالوا‏:‏ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏

وقد كره مالك أن يقول الرجل‏:‏ زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏قالوا‏:‏لأن لفظ الزيارة قد صارت في عرف الناس تتضمن ما نهى عنه،فإن زيارة القبور على وجهين‏:‏وجه شرعي،ووجه بدعى‏.‏

فالزيارة الشرعية‏:‏ مقصودها السلام على الميت والدعاء له، سواء كان نبيا، أو غير نبى‏.‏ ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه،ويدعون له، ثم ينصرفون، ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه؛ولهذا كره مالك وغيره ذلك،وقالوا‏:‏إنه من البدع المحدثة‏.‏ ولهذا قال الفقهاء‏:‏ إذا سلم المسلم عليه /وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، بل يستقبل القبلة، وتنازعوا وقت السلام عليه‏:‏ هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر‏؟‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ يستقبل القبلة‏.‏ وقال مالك والشافعي وأحمد‏:‏ يستقبل القبر‏.‏ وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد‏)‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدا‏)‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، يحذر ما فعلوا، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم، ولا يتمسح به، ولا يستحب الصلاة عنده، ولا قصده للدعاء عنده أو به؛ لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23‏]‏‏.‏ قال طائفة من السلف‏:‏ هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فعبدوهم‏.‏

وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية، وهي من جنس دين النصارى والمشركين، وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه، أو /يقسم به على الله في طلب حاجاته، وتفريج كرباته‏.‏ فهذه كلها من البدع التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أصحابه‏.‏ وقد نص الأئمة على النهى عن ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏.‏

ولهذا لم يكن أحد من الصحابة يقصد زيارة ‏[‏قبر الخليل‏]‏، بل كانوا يأتون إلى بيت المقدس فقط طاعة للحديث الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدى هذا‏)‏‏.‏

ولهذا اتفق أئمة الدين على أن العبد لو نذر السفر إلى زيارة ‏[‏قبر الخليل‏]‏، و‏[‏الطور‏]‏ الذي كلم الله عليه موسى ـ عليه السلام ـ أو جبل حراء ونحو ذلك، لم يجب عليه الوفاء بنذره، وهل عليه كفارة يمين‏؟‏ على قولين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏.‏

والسفر إلى هذه البقاع معصية في أظهر القولين، حتى صرح من يقول‏:‏ إن الصلاة لا تقصر في سفر المعصية بأن صاحب هذا السفر لا يقصر الصلاة، ولو نذر إتيان المسجد الحرام لوجب عليه الوفاء بالاتفاق‏.‏ ولو نذر إتيان مسجد المدينة، أو بيت المقدس ففيه قولان للعلماء‏.‏ أظهرهما‏:‏ وجوب الوفاء به، كقول مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه‏.‏ والثانى‏:‏ /لا يجب عليه الوفاء به، كقول أبي حنيفة والشافعي في قوله الآخر، وهذا بناء على أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع، والصحيح وجوب الوفاء بكل نذر هو طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه‏)‏، ولم يستثن طاعة من طاعة‏.‏

والمقصود هنا أن الصحابة لم يكونوا يستحبون السفر لشيء من زيارات البقاع‏:‏ لا آثار الأنبياء، ولا قبورهم، ولا مساجدهم؛ إلا المساجد الثلاثة، بل إذا فعل بعض الناس شيئاً من ذلك أنكر عليه غيره، كما أنكروا على من زار الطور الذي كلم الله عليه موسى، حتى إن ‏(‏غار حراء‏)‏ الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه قبل المبعث لم يزره هو بعد المبعث ولا أحد من أصحابه، وكذا الغار المأثور في القرآن‏.‏

وثبت أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان في بعض الأسفار، فرأى قوما يتناوبون مكانا يصلون فيه، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ مكان صلى فيه رسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏!‏ أتريدون أن تتخذوا أثر الأنبياء لكم مساجد‏؟‏‏!‏ إنما هلك من كان قبلكم بهذا‏.‏ من أدركته الصلاة فليصل، وإلا فليمض‏.‏ وهذا لأن الله لم يشرع للمسلمين مكانا يتناوبونه للعبادة إلا المساجد خاصة، فما ليس بمسجد لم يشرع قصده / للعبادة، وإن كان مكان نبى أو قبر نبى‏.‏

ثم إن المساجد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتخذ على قبور الأنبياء والصالحين، كما قال‏:‏ ‏(‏لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ وهذان حديثان في الصحيح‏.‏ وفي المسند، وصحيح أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد‏)‏‏.‏ بل قد كره الصلاة في المقبرة عموما؛ لما في ذلك من التشبه بمن يتخذ القبور مساجد، كما في السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة، والحمام‏)‏‏.‏ وهذه المعاني قد نص عليها أئمة الدين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل العراق وغيرهم، بل ذلك منقول عن أنس‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن قوله‏:‏ ‏(‏من حج فلم يزرني فقد جفاني‏)‏‏.‏

فأجاب‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏من حج ولم يزرني فقد جفاني‏)‏ كذب؛ فإن جفاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام وزيارة قبره ليست واجبة باتفاق المسلمين، ولم يثبت عنه حديث في زيارة قبره، بل هذه الأحاديث التي تروي‏:‏ ‏(‏من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة‏)‏، وأمثال ذلك كذب باتفاق العلماء‏.‏ وقد روي الدارقطني وغيره في زيارة قبره أحاديث، وهي ضعيفة‏.‏ وقد كره مالك ـ وهو من أعلم الناس بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسنة التي عليها أهل مدينته من الصحابة والتابعين وتابعيهم كره ـ أن يقال‏:‏ زرت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولو كان هذا اللفظ ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفا عند علماء المدينة لم يكره مالك ذلك‏.‏ وأما إذا قال‏:‏ سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكره بالاتفاق، كما في السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يسلم على إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام‏)‏‏.‏ وكان /ابن عمر يقول‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت‏!‏ وفي سنن أبي داود عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على‏)‏، قالوا‏:‏ وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء‏)‏‏.‏

 وَسُئِلَ ـ رحمه الله ـ عن مكة هل هي أفضل من المدينة أم بالعكس‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة‏:‏ ‏(‏والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث صحيح‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله‏)‏‏.‏ فقد ثبت أنها خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله‏.‏ وهذا صريح في فضلها‏.‏ وأما الحديث الذي يروي‏:‏ ‏(‏أخرجتني من أحب البقاع إلى فاسكنى أحب البقاع إليك‏)‏، فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم، والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل هي أفضل من المسجد الحرام‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما ‏[‏التربة‏]‏ التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدا من الناس قال‏:‏ إنها أفضل من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى، إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعا، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه‏.‏ ولا حجة عليه، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد‏.‏

وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن، فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل؛ فإن أحدا لا يقول‏:‏ إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء، فإن الله يخرج الحي من الميت، والميت من الحي‏.‏ ونوح نبى كريم، وابنه المغرق كافر، وإبراهيم خليل الرحمن، وأبوه آزر كافر‏.‏

والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة، لم يستثن منها قبور /الأنبياء، ولا قبور الصالحين‏.‏ ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبى، بل وكل صالح، أفضل من المساجد التي هي بيوت الله، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذا قول مبتدع في الدين، مخالف لأصول الإسلام‏.‏

 وَسُئِلَ ـ أيضا ـ عن رجلين تجادلا فقال أحدهما‏:‏ إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض‏.‏ وقال الآخر‏:‏ الكعبة أفضل‏.‏ فمع من الصواب‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم‏.‏

/ وسُئِلَ ـ رحمه الله‏:‏ ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين‏؟‏ هل تفضل الإقامة في الشام على غيره من البلاد‏؟‏ وهل جاء في ذلك نص في القرآن أو الأحاديث أم لا‏؟‏ أجيبونا مأجورين‏.‏

فأجاب شيخ الإسلام والمسلمين ناصر السنة تقي الدين‏:‏

الحمد لله، الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله، وأفعل للحسنات والخير، بحيث يكون أعلم بذلك، وأقدر عليه، وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك‏.‏ هذا هو الأصل الجامع، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم‏.‏

والتقوي هى‏:‏ ما فسرها الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏177‏]‏، وجماعها فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله‏.‏ وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان‏.‏ فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل؛ إذا كان مجاهدا في سبيل الله بيده أو لسانه، آمرا / بالمعروف، ناهيا عن المنكر، بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلت حسناته، ولم يكن فيها مجاهدا، وإن كان أروح قلبا‏.‏ وكذلك إذا عدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع‏.‏

ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى، أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء؛ فإن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الأعمال أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إيمان بالله ورسوله، وجهاد في سبيله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حج مبرور‏)‏‏.‏

وهكذا لو كان عاجزا عن الهجرة والانتقال إلى المكان الأفضل التي لو انتقل إليها لكانت الطاعة عليه أهون، وطاعة الله ورسوله في الموضعين واحدة، لكنها هناك أشق عليه‏.‏ فإنه إذا استوت الطاعتان فأشقهما أفضلهما، وبهذا ناظر مهاجرة الحبشة المقيمون بين الكفار لمن زعم أنه أفضل منهم، فقالوا‏:‏ كنا عند البغضاء البعداء، وأنتم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يعلم جاهلكم، ويطعم جائعكم، وذلك في ذات الله‏.‏

/وأما إذا كان دينه هناك أنقص فالانتقال أفضل له، وهذا حال غالب الخلق، فإن أكثرهم لا يدافعون، بل يكونون على دين الجمهور‏.‏ وإذا كان كذلك، فدين الإسلام بالشام في هذه الأوقات وشرائعه أظهر منه بغيره‏.‏ هذا أمر معلوم بالحس والعقل، وهو كالمتفق عليه بين المسلمين العقلاء الذين أوتوا العلم والإيمان، وقد دلت النصوص على ذلك؛ مثل ما روي أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم‏)‏‏.‏ وفي سننه ـ أيضا ـ عن عبد الله بن حوالة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنكم ستجندون أجنادا‏:‏ جندا بالشام، وجندا باليمن، وجندا بالعراق، فقال ابن حوالة‏:‏ يا رسول الله، اختر لى، فقال‏:‏ عليك بالشام؛ فإنها خيرة الله من أرضه يجتبى إليه خيرته من خلقه، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليتق من غدره، فإن الله قد تكفل لى بالشام وأهله‏)‏‏.‏ وكان الحوالي يقول‏:‏ من تكفل الله به فلا ضيعة عليه‏.‏ وهذان نصان في تفضيل الشام‏.‏

وفي مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لايزال أهل المغرب ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ أهل المغرب هم أهل الشام، وهو كما قال‏:‏ فإن هذه لغة أهل المدينة النبوية في ذاك /الزمان، كانوا يسمون أهل نجد والعراق أهل المشرق، ويسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن التغريب والتشريق من الأمور النسبية، فكل مكان له غرب وشرق؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك في المدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غربه، وما تشرق عنها فهو شرقه‏.‏

ومن علم حساب البلاد ـ أطوالها وعروضها ـ علم أن المعاقل التي بشاطئ الفرات ـ كالبيرة ونحوها ـ هي محاذية للمدينة النبوية، كما أن ما شرق عنها بنحو من مسافة القصر كحرام وما سامتها مثل الرقة وسميساط فإنه محاذ أم القرى مكة ـ شرفها الله‏.‏ ولهذا كانت قبلته هو أعدل القبل، فما شرق عما حاذى المدينة النبوية فهو شرقها، وما يغرب ذلك فهو غربها‏.‏

وفي الكتب المعتمد عليها مثل ‏[‏مسند أحمد‏]‏ وغيره عدة آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأصل‏:‏ مثل وصفه أهل الشام ‏(‏بأنه لا يغلب منافقوهم مؤمنيهم‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏رأيت كأن عمود الكتاب ـ وفي رواية‏:‏ عمود الإسلام ـ أخذ من تحت رأسي، فأتبعته نظري فذهب به إلى الشام‏)‏‏.‏ وعمود الكتاب والإسلام ما يعتمد عليه، وهم حملته القائمون به‏.‏ ومثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عقر دار المؤمنين الشام‏)‏‏.‏ ومثل ما في الصحيحين عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم /أنه قال‏:‏ ‏(‏لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏

وفيهما ـ أيضا ـ عن معاذ بن جبل قال‏:‏ ‏(‏وهم بالشام‏)‏‏.‏ وفي تاريخ البخاري قال‏:‏ ‏(‏وهم بدمشق‏)‏‏.‏ وروي‏:‏ ‏(‏وهم بأكناف بيت المقدس‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين ـ أيضا ـ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أخبر ‏(‏أن ملائكة الرحمن مظلة أجنحتها بالشام‏)‏‏.‏

والآثار في هذا المعنى متعاضدة، ولكن الجواب ـ ليس على البديهة ـ على عجل‏.‏

وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين ـ عليهم السلام ـ مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين‏:‏ أن الخلق والأمر ابتدءا من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدئت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي جعلها الله قياما للناس‏:‏ إليها يصلـون، ويحجـون، ويقـوم بها مـا شـاء الله من مصالح دينهم ودنياهم، فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام، والحشر إليها‏.‏ فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر‏.‏ وهناك يحشر الخلق‏.‏ والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام‏.‏ وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس، فأول الأمة خير من آخرها‏.‏ وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى /الشام، كما أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏ فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو بالشام‏.‏ فالأمر مساسه كما هو الموجود والمعلوم‏.‏

وقـد دل القـرآن العظيم على بركـة الشام في خمـس آيـات‏:‏ قـوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏، والله تعالى إنما أورث بني إسرائيل أرض الشام، وقوله‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 81‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 18‏]‏‏.‏ فهذه خمس آيات نصوص‏.‏ و‏[‏البركة‏]‏ تتناول البركة في الدين، والبركة في الدنيا‏.‏ وكلاهما معلوم لا ريب فيه، فهذا من حيث الجملة والغالب‏.‏

وأما كثير من الناس فقد يكون مقامه في غير الشام أفضل له، كما تقدم‏.‏ وكثير من أهل الشام لو خرجوا عنها إلى مكان يكونون فيه أطوع لله ولرسوله لكان أفضل لهم‏.‏ وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي ـ رضي الله عنهما ـ يقول له‏:‏ هلم إلى الأرض /المقدسة، فكتب إليه سلمان‏:‏ إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الرجل عمله‏.‏ وهو كما قال سلمان الفارسي؛ فإن مكة ـ حرسها الله تعالى ـ أشرف البقاع، وقد كانت في غربة الإسلام دار كفر وحرب يحرم المقام بها، وحرم بعد الهجرة أن يرجع إليها المهاجرون فيقيموا بها، وقد كانت الشام في زمن موسى ـ عليه السلام ـ قبل خروجه ببني إسرائيل دار الصابئة المشركين الجبابرة الفاسقين، وفيها قال تعالى لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏145‏]‏‏.‏

فإن كون الأرض ‏[‏دار كفر‏]‏ أو ‏[‏دار إسلام‏]‏ أو ‏[‏إيمان‏]‏ أو ‏[‏دار سلم‏]‏ أو ‏[‏حرب‏]‏ أو ‏[‏دار طاعة‏]‏، أو ‏[‏معصية‏]‏ أو ‏[‏دار المؤمنين‏]‏ أو ‏[‏الفاسقين‏]‏، أوصاف عارضة، لا لازمة‏.‏ فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس‏.‏

وأما الفضيلة الدائمة في كل وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقال تعالى ‏{‏وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏111، 112‏]‏‏.‏ وقال تعال‏:‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وإسلام الوجه لله تعالى هو إخلاص القصد والعمل له والتوكل عليه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏‏.‏

ومنذ أقام الله حجته على أهل الأرض بخاتم رسله محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجب على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، واتباع شريعته ومنهاجه‏.‏ فأفضل الخلق أعلمهم، وأتبعهم لما جاء به‏:‏ علما، وحالا، وقولا، وعملا، وهم أتقى الخلق‏.‏ وأي مكان وعمل كان أعون للشخص على هذا المقصود كان أفضل في حقه، وإن كان الأفضل في حق غيره شيئاً آخر‏.‏ ثم إذا فعل كل شخص مـا هـو أفضل في حقـه، فـإن تساوت الحسنات والمصالح التى حصلت له مع ما حصل للآخر فهما سواء، وإلا فإن أرجحهما في ذلك هو أفضلهما‏.‏

وهذه الأوقات يظهر فيها من النقص في خراب ‏[‏المساجد الثلاثة‏]‏ علما وإيماناً، ما يتبين به فضل كثير ممن بأقصى المغرب على أكثرهم‏.‏ فلا ينبغى للرجل أن يلتفت إلى فضل البقعة في فضل أهلها مطلقا، بل يعطى كل ذي حق حقه، ولكن العبرة بفضل الإنسان في إيمانه وعمله الصالح والكلم الطيب، ثم قد يكون بعض البقاع أعون على بعض الأعمال كإعانة مكة حرسها الله تعالى على الطواف والصلاة المضعفة ونحو / ذلك‏.‏ وقد يحصل في الأفضل معارض راجح يجعله مفضولا؛ مثل من يجاور بمكة مع السؤال والاستشراف، والبطالة عن كثير من الأعمال الصالحة، وكذلك من يطلب الإقامة بالشام لأجل حفظ ماله وحرمة نفسه، لا لأجل عمل صالح، فالأعمال بالنيات‏.‏

وهذا الحديث الشريف إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الهجرة فقال‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه‏)‏‏.‏ قال ذلك بسبب أن رجلا كان قد هاجر يتزوج امرأة يقال لها‏:‏ أم قيس، وكان يقال له‏:‏ مهاجر أم قيس‏.‏

وإذا فضلت جملة على جملة لم يستلزم ذلك تفضيل الأفراد على الأفراد، كتفضيل القرن الثانى على الثالث، وتفضيل العرب على ما سواهم، وتفضيل قريش على ما سواهم‏.‏ فهذا هذا، والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله‏:‏ عن رجلين اختلفا في الصلاة في جامع بني أمية‏:‏ هل هي بتسعين صلاة، كما زعموا أم لا‏؟‏

وقد ذكروا‏:‏‏(‏أن فيه ثلاثمائة نبي مدفونين‏)‏، فهل ذلك صحيح أم لا‏؟‏ وقد ذكروا‏:‏‏(‏أن النائم بالشام كالقائم بالليل بالعراق‏)‏، وذكروا‏:‏‏(‏أن الصائم المتطوع بالعراق كالمفطر بالشام‏)‏، وذكروا‏:‏‏(‏أن الله خلق البركة إحدى وسبعين جزءا، منها جزء واحد بالعراق، وسبعون بالشام‏)‏، فهل ذلك صحيح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لم يرد في ‏[‏جامع دمشق‏]‏ حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتضعيف الصلاة فيه، ولكن هو من أكثر المساجد ذكرا لله تعالى‏.‏ ولم يثبت أن فيه عدد الأنبياء المذكورين‏.‏

وأما القائم بالشام أو غيره فالأعمال بالنيات؛ فإن أقام فيه بنية صالحة فإنه يثاب على ذلك‏.‏ وكل مكان يكون فيه العبد أطوع لله فمقامه فيه أفضل، وقد جاء في فضل الشام وأهله أحاديث صحيحة، ودل /القرآن على أن البركة في أربع مواضع، ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره، وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره‏.‏ وأما ما ذكر‏:‏ من حديث الفطر والصيام، وأن البركة إحدى وسبعون جزءا بالشام، والعراق على ما ذكر‏:‏ فهذا لم نسمعه عن أحد من أهل العلم، والله أعلم‏.‏

 وَسُئِلَ ـ أيضا‏:‏ هل دخلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى دمشق، وكانت تحدث الناس بجامع دمشق أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، لم يدخل دمشق أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، لا عائشة ولا غيرها، والله أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ رحمه الله تعالى ـ عن ‏[‏جبل لبنان‏]‏‏:‏ هل ورد في فضله نص في كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يصقع الناس إليه برؤوسهم إذا أبصروه‏؟‏ وحتى من أبصره صباحا أو مساء يرى أن ذلك بركة عظيمة‏؟‏ وهل ثبت عند أهل العلم أن فيه أربعين من الأبدال‏؟‏ أو كان فيه رجال عليهم شعر مثل شعر الماعز‏؟‏ وهل هذه صفة الصالحين‏؟‏ وهل يجوز أن يعقد له نية الزيارة‏؟‏ أو يعتقد أن من وطئ أرضه فقد وطئ بعض الجبل المخصوص بالرحمة‏؟‏ وهل ثبت أن فيه نبيا من الأنبياء مدفون أو في أذياله‏؟‏ أو قال أحد من أهل العلم‏:‏ إن فيه رجال الغيب‏؟‏ وكيف صفة رجال الغيب الذين يعتقد العوام فيهم‏؟‏ وهل يحل في دين الله تعالى أن يعتقد المسلمون شيئاً من هذا‏؟‏ وهل يكون كل من كابر فيه وحسنه أو داهن فيه مخطئاً آثماً‏؟‏ وهل يكون المنكر لهذا كله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والحالة هذه أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس في فضل ‏[‏جبل لبنان‏]‏ وأمثاله نص لا عـن الله /ولا عـن رسوله، بل هـو وأمثالـه مـن الجبال التي خلقـها الله وجعلها أوتـادا للأرض، وآيـة مـن آياتـه، وفيها مـن منافع خلقـه مـا هـو نعم لله على عباده‏.‏ وسـوف يفعل بها ما أخبر بـه في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 105‏:‏ 107‏]‏‏.‏

وأما ما ذكر في بعض الحكايات عن بعض الناس من الاجتماع ببعض العباد في جبل لبنان، وجبل اللكام، ونحو ذلك، وما يؤثر عن بعض هؤلاء من جميع المقال والفعال، فأصل ذلك‏:‏ أن هذه الأمكنة كانت ثغورا يرابط بها المسلمون لجهاد العدو؛ لما كان المسلمون قد فتحوا الشام كله وغير الشام، فكانت غزة، وعسقلان، وعكة، وبيروت، وجبل لبنان، وطرابلس، ومصيصة، وسيس، وطرسوس وأذنة، وجبل اللكام، وملطية، وآمد، وجبل ليسون، إلى قزوين إلى الشاش، ونحو ذلك من البلاد، كانت ثغورا، كما كانت الإسكندرية ونحوها ثغورا، وكذلك عبادان ونحوها من أرض العراق‏.‏ وكان الصالحون يتناوبون الثغور لأجل المرابطة في سبيل الله، فإن المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، ما أعلم في ذلك خلافا بين العلماء‏.‏

وثبت في صحيح مسلم عن سلمان الفارسى ـ رضي الله عنه قال‏:‏ قال / رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا مات مجاهدا، وجرى عليه عمله، وأجرى عليه رزقه من الجنة، وأمن الفتان‏)‏‏.‏ وفي السنن عن عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏)‏‏.‏ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ لأن أرابط ليلة في سبيل الله، أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود‏.‏

وذلك لأن الرباط هو من جنس الجهاد، والمجاورة من جنس النسك، وجنس الجهاد في سـبيل الله أفضل مـن جنس النسك؛ بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19- 22‏]‏‏.‏ وفضائل الجهاد والرباط كثيرة‏.‏

فلذلك كان صالحو المؤمنين يرابطون في الثغور، مثل ما كان الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، ومخلد بن الحسين، وإبراهيم بن /أدهم، وعبد الله بن المبارك، وحذيفة المرعشي، ويوسف بن أسباط، وغيرهم، يرابطون بالثغور الشامية‏.‏ ومنهم من كان يجيء من خراسان والعراق وغيرهما للرباط في الثغور الشامية؛ لأن أهل الشام هم الذين كانوا يقاتلون النصارى أهل الكتاب‏.‏ وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قتله أهل الكتاب فله أجر شهيدين‏)‏؛ وذلك لأن هؤلاء يقاتلون على دين‏.‏ وأما الكفار الترك ونحوهم فلا يقاتلون على دين، فإذا غلبوا أولئك أفسدوا الدين والملك‏.‏ وأما الترك فيفسدون الملك وما يتبع ذلك من الدين، ولا يقاتلون على الدين‏.‏

ولهذا كثر ذكر ‏[‏طرسوس‏]‏ في كتب العلم والفقه المصنفة في ذلك الوقت، لأنها كانت ثغر المسلمين، حتى كان يقصدها أحمد بن حنبل، والسري السقطي؛ وغيرهما من العلماء والمشائخ للرباط، وتوفي المأمون قريبا منها‏.‏

فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان، والإسكندرية، أو عكة، أو قزوين، أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين الذين بهذه الأمكنة ونحو ذلك، فهو لأجل كونها كانت ثغورا، لا لأجل خاصية ذلك المكان‏.‏ وكون البقعة ثغرا للمسلمين أو غير ثغر هو من الصفات العارضة لها اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام أو دار كفر، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم وإيمان، أو دار / جهل ونفاق‏.‏ فذلك يختلف باختلاف سكانها وصفاتهم، بخلاف المساجد الثلاثة، فإن مزيتها صفة لازمة لها، لا يمكن إخراجها عن ذلك‏.‏ وأما سائر المساجد فبين العلماء نزاع في جواز تغييرها للمصلحة، وجعلها غير مسجد، كما فعل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بمسجد الكوفة لما بدله وجعل المسجد مكانا آخر، وصار الأول حوانيت التمارين‏.‏ وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره‏.‏

 فصــل

إذا عرف ذلك، فهذه السواحل الشامية كانت ثغوراً للإسلام إلى أثناء المائة الرابعة، وكان المسلمون قد فتحوا ‏[‏قبرص‏]‏ في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ فتحها معاوية، فلما كان في أثناء المائة الرابعة اضطرب أمر الخلافة، وصار للرافضة والمنافقين وغيرهم دولة وملك بالبلاد المصرية والمغرب، وبالبلاد الشرقية وبأرض الشام، وغلب هؤلاء على ما غلبوا عليه من الشام؛ سواحله وغير سواحله، وهم أمة مخذولة ليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح ولا دنيا منصـورة، فغلبت النصارى على عامة سواحل الشام، بل وأكثر بلاد الشام، وقهروا الروافض والمنافقين وغيرهم، وأخذوا منهم ما أخذوا، إلى أن يسر / الله تعالى بولاية ملوك السنة مثل ‏[‏نور الدين‏]‏ و‏[‏صلاح الدين‏]‏ وغيرهما، فاستنقذوا عامة الشام من النصارى‏.‏

وبقيت بقايا الروافض والمنافقين في جبل لبنان وغيره، وربما غلبهم النصارى عليه حتى يصير هؤلاء الرافضة والمنافقون فلاحين للنصارى‏.‏ وصار جبل لبنان ونحوه دولة بين النصارى والروافض، ليس فيه من الفضيلة شيء، ولا يشرع، بل ولا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه‏.‏

ولكن صار طوائف ممن يؤثر التخلي عن الناس ـ زهدا ونسكا ـ يحسب أن فضل هذا الجبل ونحوه، لما فيه من الخلوة عن الناس، وأكل المباحات من الثمار التي فيه، فيقصدونه لأجل ذلك غلطا منهم، وخطأ، فإن سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعا للمسلمين إلا عند الفتنة في الأمصار التي تحوج الرجل إلى ترك دينه؛ من فعل الواجبات وترك المحرمات، فيهاجر المسلم حينئذ من أرض يعجز عن إقامة دينه إلى أرض يمكنه فيها إقامة دينه؛ فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه‏.‏

وربما كان بعض الأوقات من هؤلاء النساك الزهاد طائفة إما ظالمون لأنفسهم، وإما مقتصدون مخطئون مغفور لهم خطؤهم، فأما السابقون / المقربون فهم الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه عن الله تعالى‏:‏ ‏(‏ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعلة ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه‏)‏‏.‏

ولا خلاف بين المسلمين أن جنـس النساك الزهاد الساكنين في الأمصار أفضـل من جنـس ساكني البوادي والجبال، كفضيلة القروي على البدوي، والمهاجر على الأعرابي، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 97‏]‏، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن من الكبائر أن يرتد الرجل أعرابيا بعد الهجرة‏)‏‏.‏ هذا لمن هو ساكن في البادية بين الجماعة، فكيف بالمقيم وحده دائما في جبل أو بادية‏؟‏‏!‏ فإن هذا يفوته من مصالح الدين نظير ما يفوته من مصالح الدنيا أو قريب منه؛ فإن يد الله على الجماعة، والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد‏.‏